أعتقد أن المسألة قد باتت رسمية الآن، بعد أن اعترف عضو سابق من أعضاء الدائرة الضيقة لإدارة الرئيس جورج دبليو بوش، وهو"سكوت ماكليلان" المتحدث الرسمي باسم البيت الأبيض خلال الفترة 2003- 2006 بأن حرب العراق كانت خطأً استراتيجياً فادحاً، وأنه قد تم تسويقها من خلال الغش والخداع، وعبر كونجرس مذعور، لشعب كان لا يزال يترنح جراء صدمة الحادي عشر من سبتمبر. ففي كتابه الجديد المعنون: "ماذا حدث؟" يخبرنا ماكليلان بأن الحروب "ينبغي ألا تُشن ما لم تكن هناك ضرورة لذلك". حسناً يا "سكوت"! ولكن معظمنا كان يعرف هذا بالفعل، منذ زمن طويل، ذلك لأن أي قراءة سطحية لتاريخ أية حرب سواء الحرب العالمية الأولى، أو الثانية، أو الحرب الكورية، أو حرب فيتنام، ستصل بنا حتماً إلى نفس الاستنتاج، وهو أن خوض الحروب دونما ضرورة، ضرب من الجنون. عندما كنت أقرأ كتاب "ماكليلان" كنت أفكر في العديد من الناس العاديين، وأفراد القوات المسلحة وأقاربهم، وكثيرين غيرهم، ممن تعرضوا لمعاناة رهيبة جراء تلك الحرب غير الضرورية، والخاطئة من الأساس. كما تذكرت أيضاً ما دار بيني وبين "تايلر هال" الرقيب ذي الوجه الطفولي من "واسيلا- ألاسكا" من حديث قال لي فيه: "لقد تم تفجيري بعبوة ناسفة بدائية الصنع، من النوع الذي يتم وضعه على جنبات الطريق". وتبين لي أن ذلك الحادث قد أسفر عن كسر ثلاثة عظام من عمود "تايلر" الفقري، وأن ذراعه قد تهشمت، وفقد ساقه اليسرى تحت الركبة، كما تعرض لحروق شديدة ولكسر سقف الحلق، مما استدعى إجراء عملية جراحية معقدة له لإعادة تركيب الجزء السفلي من وجهه، كما تعرض أيضاً لإصابة مؤثرة في المخ، وإصابات أخرى كثيرة متفرقة يطول الحديث في وصفها وتشريح مواضعها من الجسم. وهذه ليست سوى لمحة بسيطة من ملامح ما يمكن أن يحدث، عندما يرفض رئيس الاستماع إلى نداء العقل، ويرسل قبل استعداد كافٍ، وبقدر لا يغتفر من اللامبالاة، المتطوعين الشجعان من أبناء بلده، إلى محرقة لا طائل من ورائها، أدت حتى الآن إلى مصرع ما يزيد على أربعة آلاف جندي أميركي على الأقل. وأشير هنا إلى أن صحيفة "نيويورك تايمز" وشبكة قنوات HBO قد اشتركتا في إنتاج برنامج وثائقي عنوانه "آخر الرسائل إلى الوطن" وهو عنوان ليس بحاجة إلى تفسير. وكانت إحدى تلك الرسائل موجهة إلى "جون وايتمر"، من "نيوبرلين- ويسكونسن"، ومرسلة من ابنته "ميشيل" البالغة من العمر 20 عاماً، والتي تعمل في الجيش. وفيها تقول له: "والدي العزيز... كل عام وأنت بخير بمناسبة عيد الأب... إنني أحبك حبّاً جمّاً، ولا يمكنك تخيل كم أفكر فيك. آمل أن يكون الجو صحواً وأن تستمتع كثيراً اليوم". لقد تحدثت مع العديد من الآباء والأمهات الآخرين الذين فقدوا أبناءهم في الحرب، وما زلت أتذكر منهم "سيلست زابا" التي أخبرتني والدموع تترقرق في مآقيها، عندما التقيتها في منزلها بفيلادلفيا، عن اللحظات الصعبة التي علمت فيها بأن ابنها "شيروود بيكر" الرقيب في الحرس الوطني، قد لقي حتفه في الحرب. ففي ذات ليلة من ليالي إبريل 2004 رأت تلك الأم الثكلى المكلومة بينما كانت جالسة في صالة منزلها رجلاً يرتدي الزي العسكري يقترب من مدخل بيتها: "كان الرجل يحمل دفتراً في يده، وكان بإمكاني رؤيته بوضوح على رغم العتمة المحدقة والظلام الدامس، والأمطار المنهمرة كأن السماء انخرطت في نوبة بكاء مريرة. وعندما اقترب من مدخل البيت خرجت للقائه ونظرت إليه، فرأيت في عينيه ما فهمته على الفور، وما لم أكن أريد أن أصدقه. لم يكن ولدي قد أمضى في بغداد سوى 6 أسابيع عندما تعرض لحادث تفجير في أحد المصانع، بينما كان يساعد على توفير الأمن لمجموعة مسح أميركية، كانت تبحث عن أسلحة الدمار الشامل التي لم تكن موجودة في الأصل". إن حرب العراق التي أدت إلى مصرع 100 ألف عراقي، وستكلف الولايات المتحدة ما يقرب من 3 تريليونات دولار، والتي تتواصل حتى الآن دون أن تلوح لها نهاية قريبة في الأفق، لهي فضيحة وجريمة في آن واحد، حتى لو تأخر "سكوت ماكليلان" بعض الشيء قبل أن ينبه إلى فظاعتها. بيد أن الشيء الأكثر أهمية من تأملاته المتأخرة في تلك الحرب، والأكثر أهمية أيضاً من إبداء غضبه المتأخر على تسريب اسم عميلة الاستخبارات المركزية الأميركية، هو التحذير الذي قدمه بشأن "ثقافة الخداع" التي لوثت -كما يقول عن حق- جو السياسات الوطنية، والعمل الحكومي. يقول ماكليلان: "لقد أضحت واشنطن مصدراً لحملة دائمة، أو لما يمكننا أن نسميه لعبة مستمرة من المناورات الحزبية القائمة على إساءة استغلال ظلال الحقائق، والحقائق المتحيزة، والتلفيق... لعبة أصبح فيها الحكم ملحقاً بالسياسة وليس العكس... لعبة يُتخذ فيها الانتصار الانتخابي والسيطرة على السلطة مقياساً للنجاح". إن "ماكليلان" بنشره لكتابه هذا إنما يطلق صرخة مدوية في واشنطن لما تضمنه من معلومات مذهلة، وحقائق كاشفة جديدة ومهولة، وأيضاً لحقيقة كونه رجلاً من الدائرة الضيقة المحيطة بالرئيس، كتب كتاباً لم يكن محتاجاً فيه إلى نفاق رئيسه السابق. فلننسَ أن هذه الحكومة كان يجب أن تكون من الشعب ومن أجل الشعب، وأن الحقيقة يجب أن تكون مهمة دائماً، ولنركز أنظارنا الآن على عاصفة النقد التي يتعرض لها "ماكليلان" والتي يوصف في إطارها بأوصاف ليس أقلها أنه "خائن". ومن قِبل من؟ من قبل تلك الطائفة نفسها من المسؤولين الذين قبلوا بثقافة الخداع، والذين يعتقدون أن الولاء الأساسي للمسؤول الحكومي يجب أن يكون للرئيس وليس للشعب. إن هذا النمط من التفكير تحديداً هو الذي يستنسخ عادة الحروب غير الضرورية، كحرب العراق، وهنا المأساة، بل المأساة الكبرى. بوب هربرت ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كاتب ومحلل سياسي أميركي ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"